فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عن الزهري: سمعت علي بن الحسين يحاسب نفسه ويناجى ربه يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من آلافك، ومن فجعت به من إخوانك. ونقل إلى الثرى من أقرابك، فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر.
خَلَتْ دُورُهمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عَرَاصُهُمْ ** وَسَاقَهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِرُ

وَخَلَّو عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا ** وَضَمَّتْهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ الْحَفَائِرُ

كم خربت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غبرت الأرض وغيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى المهالك ثم رجعت عنهم إلى أهل الإفلاس.
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ ** لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ

عَلَى خَطَرٍ تَمْشِي وَتُصْبِحُ لاهِيًا ** أَتَدْرِي بِمَا ذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ

وَإِنَّ امْرَأً يَسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائِبًا ** وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لا شَكَّ خَاسِرُ

فحتام على الدنيا إقبالك وبشهواتها اشتغالك وفد وخطك الشيب وأتاك وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات وعاينت ما حل بهم من المصيبات.
أَبَعْدَ اقْتِرَابِ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ ** وَشِيب قَذَالٍ مُنْذِر لِلأَكَابِر

كَأَنَّكَ مَعْنَي بِمَا هُوَ ضَائِرٌ ** لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ حَائِر

انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عقبان الأيام ووفاهم الحمام فانمحت من الدنيا آثارهم ويقنت فيها أخبارهم وأضحوا رممًا في التراب إلى يوم الحشر والمآب والحساب.
فَأَمْسَوْا رَمِيمًا فِي التُّرَابِ وَعُطِّلَتْ ** مَجَالِسَهُمْ مِنْهُمْ وَأَخْلَى الْمَقَاصِرُ

وَحَلُّوا بِدَارٍ لا تزاور بَيْنَهُمْ ** وَأَنَّى لِسُكَّانِ الْقُبُورِ التَّزَاوُرُ

فَمَا أَنْ تَرَى إِلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا ** مُسَطَّحَةً تَسْفِي عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ

كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان تمكن من دنياه ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.
فَمَا صَرَفَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ إِذَا أَتَتْ ** مُبَادَرَة تَهْوَى إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ

وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونُ الَّتِي بَنَى ** وَحَفَّ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ

وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ ** وَلا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهُ الْعَسَاكِرُ

أتاه من الله ما لا يرد ونزل به من قضائه ما لا يصد فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز القهار قاصم الجبارين ومبيد المتكبرين الذي ذل لعزه كل سلطان وأباد بقوته كل ديان.
مَلِيكُ عَزِيزُ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ ** حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِذُ الأَمْرِ قَاهِرُ

عَنَى كُلُّ ذِي عِزٍّ لِعِزَّةِ وَجْهِهِ ** فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ

لَقَدْ خَضَعَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَأَلَتْ ** لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الملوكُ الْجَبَابِرُ

فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لك من مصائدها، وتحلت لك من زينتها، وأبرزت لك من شهواتها وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها.
وَفِي دُون مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتُهَا ** إِلَى دَفْعِهَا دَاعٍ وَبِالزُّهْدِ آمِرُ

فَجُدَّ وَلا تَغْفُلْ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا ** فَعَمَّا قَلِيلٍ يَتْركُ الدَّارَ عَامِرُ

فَشَمِّرْ وَلا تَفْتُرْ فَعُمْركَ زَائِلٌ ** وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الإِقَامَةِ صَائِرُ

وَلا تَطْلُبَ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَعِيمَهَا ** وَإِنْ نِلْتَ مِنْهُ غِبُّهُ لَكَ ضَائِرُ

فهل يحرص على الدنيا لبيب، أو يسر بها أريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها أم كيف تنام عين من يخشى البيات وكيف تسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات.
أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ** وَتَشْغَلُنَا الَّلَذاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ

وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ** بِمَوْقِف عَرْضٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نُشُورَ وَأَنَّنَا ** سُدى مَا لَنَا بَعْدَ الْمَمَاتِ مَصَادِرُ

وما عسى أن ينال صاحب الدنيا لذتها ويتمتع به من بهجتها مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها وكثرة عذابه في مصائبها وفي طلبها وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها.
أَمَا قَدْ نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ** يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ

تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا ** وَكَمْ قَدْ نَرَى يَبْقَى لَهَا الْمُتَعَاوِرُ

فَلا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ ** وَلا هُوَ مَنْ تَطْلا بِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ

كم غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمة.
بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمِنْعَةٍ ** مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ

فَلَمَّا رَأَى أَنْ لا نَجَاةَ وَأَنَّهُ ** هُوَ الْمَوْتُ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ

تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ ** عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ

إذا بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار، ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزول البلية.
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ** وَأبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ

فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ** وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ

وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ** تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَا وَالْحَنَاجِرُ

هنالك خلف عواده وأسلمه أهله وأولاده وارتفعت البرية بالعويل وقد أيسوا من العليل فغمضوا بأيديهم عينيه ومد عند خروج روحه رجليه وتخلى عنه الصديق والصاحب الشفيق.
فَكَمْ مُوجِعٌ يَبْكِي عَلَيْهِ مُفَجَّعٌ ** وَمُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ

وَمُسْتَرْجِعٌ دَاعٍ لَهُ الله مُخْلِصًا ** يُعَدّدُ مِنْهُ كُلَّ مَا هُوَ ذَاكِرُ

وَكَمْ شَامِتٌ مُسْتَبْشِرٌ بِوَفَاتِهِ ** وَعَمَّا قَلِيل لِلَّذِي صَارَ صَائِرُ

فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه وشمروا لإبرازه كأن لم يكن بينهم العزيز المفدى ولا الحبيب المبدَّى.
وَحَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ بِقُرْبِهِ ** يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ

وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ ** وَوَجِّه لِمَا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ

وَكُفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ ** مُشَيِّعُهُ إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ

فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه وقد خضبت الدموع عينيه وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه واحرباه.
لَعَايَنْتَ مِنْ قُبْحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظَرًا ** يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ

أَكَابِرُ أَوْلادٍ يَهِيج اكْتِئَابِهم ** إِذَا مَا تَنَاسَاهُ الْبَنُونُ الأَصَاغِرُ

وَرَبَّةُ نِسْوَان عَلَيْهِ جَوَازِع ** مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ

ثم أخرج من سعة قصره، إلى مضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وهيء عليه اللبن احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه وأوزاره، وضاق ذرعًا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا عليه البكاء والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب.
فَوَلَّوا عَلَيْهِ مُعولِينَ وَكُلُّهُم ** لِمِثْل الَّذِي لاقَى أَخُوهُ مُحَاذِرُ

كَشَاءٍ رَعَاءٍ آمِنِينَ بَدَا لَهَا ** بِمُدْيتِهِ بَادِي الذِّرَاعَيْنِ حَاسِرُ

فَرِيعَتْ وَلَمْ تَرْعَى قَلِيلاً وَأَجْفَلَتْ ** فَلَمَّا نَأَى عَنْهَا الَّذِي هُوَ جَازِرُ

عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفا بأفعال الأنعام اقتدينا أم على عادتها جرينا، عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبره بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.
ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ ** مَوَارِيثَهُ أَوْلادُهُ وَالأَصَاهِرُ

وَأَحْنَو عَلَى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا ** فَلا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ

فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ** وَيَا آمِنًا مِن أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ

كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك، وهى مطيتك إلى مماتك، أم كيف تشبع من طعامك، وأنت منتظر حمامك، أم كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات.
وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلرَّحِيلِ وَقَدْ دَنَا ** وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكٌ مُسَافِرُ

فَيَا لَهْفَ قَلْبِي كَمْ أَسوِّفُ تَوْبَتِي ** وَعُمْرِيَ فَانٍ وَالرَّدَى لِيَ نَاظِرُ

وَكُلَّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحُفِ مُثْبَتٌ ** يُجَازى عَلَيْهِ عَادِلُ الْحكمِ قَادِرُ

فكم ترتع بآخرتك دنياك، وتركب غيك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن أم على هذا نزل القرآن أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورًا ومساكنهم قبورًا.
تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى وَتَعْمُرُ فَانِيَا ** فَلا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلا ذَاكَ عَامِرُ

وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً ** وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى اللهِ عَاذِرُ

أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِي ** وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ

ا. هـ.
ينبغي لن عمر ستين أن يحاسب نفسه ويتخلى للعبادة قبل هجوم هادم اللذات.
وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا ** فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ ** فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا

آخر:
سِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفُ ** بِهِ وَجَلٌ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ

يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا ** وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهُوَ رَاجٍ وَخَائِفُ

فَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى ** وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ

فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي ** إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ

وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا ** يُصَدِّدُ ذُو الْقُرْبَى وَيَجْفُوا الْمُؤَآلِفُ

لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي ** أُرَجِيّ لإِسْرَافِي فَإِنِّي لَتَالِفُ

آخر:
غَفَلتُ وَلَيْسَ الْمَوْتُ فِي غَفْلَةٍ عَنِّي ** وَمَا أَحَدٌ يَجْنِي عَليَّ كَمَا أَجْنِي

أُشَيِّدُ بُنْيَانِي وَأَعْلَمُ أَنَّنِي ** أَزُولُ لِمَنْ شَيَّدتُهُ وَلِمَنْ أَبْنِي

كَفَانِي بِالْمَوْتِ الْمُنَغَّصِ وَاعِظًا ** بِمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَا سَمِعَتْ أُذُنِي

وَكَمْ لِلْمَنَايَا مِنْ فُنُونٍ كَثِيرَة ** تُمِيتُ وَقَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى فَنِّ

وَلَوْ طَرَقَتْ مَا اسْتَأْذَنَتْ مَنْ يُحِبني ** كَمَا أَفْقَدَتْنِي مَنْ أُحِبُّ بِلا إِذْنِ

قَدْ كُنْتُ أَفْدِي نَاظِريهِ مِنَ الْقَذَى ** فَغَطَّيْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أُفْدِيهِ بِالْعَيْنِ

سَتَسْجُني يَا رَبِّ فِي الْقَبْرِ بُرْهَةً ** فَلا تَجْعَلَ النِّيرَانَ مِنْ بَعْدِهِ سِجْنِي

وَلِي عِنْدَ رَبِّي سَيِّئَاتٌ كَثِيرَةٌ ** وَلَكِنَّنِي عِبدٌ بِهِ حَسَنُ الظَّنّ

عصمنا الله وإياكم من الزلل، ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد، وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل:
وقال ابن القيم رحمه الله: لا يتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، واضمحلالها ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد.
وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب ذلك من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها وغم بعد فواتها، فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة واقبالها ومجيئها، ولابد ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه صلى الله عليه وسلم وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى صلى الله عليه وسلم فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة، منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد، فيما يقتضي الزهد فيه كل احدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة، إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له وإما لعدهم رغبته في الأفضل.
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الأيمان وضعف العقل والبصيرة، فأن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها، إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وأما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها، وعدوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولو صلوا منها إلى كل مرغوب.
فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فأثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيادة حتى آذن بالرحيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب مال في ظل شجرة ثم راح وتركها» وقال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع».
وقال خالقها سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً ** وَسَبْعُ تُمَيْرَاتٍ صِغَارٍ هَوَامِزِ

فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خِصْبًا وَنِعْمَةً ** وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ وَقْتَ الْهَزَاهِز

آخر:
لا خَيْرَ فِي طَمَعٍ يُدْنِي لِمَنْقَصَةٍ ** وَحَفْنَةٌ مِنْ كَفَافِ الْعَيْشِ تَكْفِينِي

آخر:
لَعَمْرِي مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْكَ نِعْمَةً ** وَمَدَّ لَهَا كَفًّا فَأَنْتَ أَمِيرُهُ

وَمَنْ كُنْتُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ ** أَمِيرُكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ أَسِيرُهُ

وَمَنْ كُنْتَ عَنْهُ ذَا غِنَى وَهُوَ مَالِكٌ ** أَزِمَّةً أَمْوَالٍ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ

آخر:
لَعَمْرِكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ** وَلا الْحَيُّ فِي دَارِ السَّلامَةِ آمِنُ

تُحَارِبُنَا أَيَّامُنَا وَلَنَا رِضَىً ** بِذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمَنَايَا تُهَادِنُ

أَرَى الْحِيرَةَ الْبَيْضَاءَ عَادَتْ قُصُورُهَا ** خَلاءً وَلَمْ تَثْبُتْ لِكِسْرى الْمَدَائِنُ

رَكِبْنَا مِنَ الآمَالِ فِي الدَّهْرِ لُجَّةً ** فَمَا صَبَرَتْ لِلْمَوْجِ تِلْكَ السَّفَائِنُ

فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}.
وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
وقال تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}.
قد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا ** فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ ** فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا

وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}.
وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}.
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}.
وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}.
وقوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً}. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
خُلِقْنَا لأَحْدَاثِ اللَّيَالِي فَرَائِسًا ** تَزَفُّ إِلَى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسَا

تُجََِّز مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا ** وَتُرْدِفُ أَعْوَادُ الْمَنَايَا فَوَارِسَا

إِذَ أَمَلٌ أَرْخَى لَنَا مِنْ عَنَانِهِ ** غَدَا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسَا

أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُتِّ وَهُوَ بِمَائِهِ ** رَطِيبًا وَمَا إِنْ أَصْبَحَ الْغِصْنُ يَا بِسَا

نَشِيدُ قُصُورَا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً ** وَنَصِبرُ مَا شِئْنَا فُتُورًا دَوَارِسَا

وَقَدْ نَعَتِ الدُّنْيَا إِلَيْنَا نُفُوسَنا ** بِمَنْ مَاتَ مِنَّا لَوْ أَصَابَتْ أَكَايِسَا

لَقَدْ ضَرَبتْ كِسْرَى الْمُلُوكِ وَتُبَّعا ** وَقَيْصَرَ أَميَالاً فَلَمْ نَرَ قَائِسَا

نَرَى مَا نَرَى مِنْهَا جَهَارا وَقَدْ غَدَا ** هَوَاهَا عَلَى نُورِ الْبَصِيرَةِ طَامِسَا

وَقَدْ فَضَح الدُّنْيَا لَنَا الْمَوْتُ وَاعِظًا ** وَهَيْهَاتَ مَا نَزْدَادُ إِلا تَقَاعُسَا

آخر:
كَمْ سَالِمٍ أَسْلَمْتَهُ لِلرَّدَى فَقَضَى ** حَتْفًا وَلَمْ يَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَاطَرَا

وَمُتْرَفٍ قَلَبَتْ ظَهْرَ الْمِجَنَّ لَهُ ** فَعَادَ بَعْدَ عُلُّوِّ الْقَدْرِ مُحْتَقَرَا

فَأَبْعِدَنْهَا وَلا تَحْفَلْ بِزُخْرُفِهَا ** وَغُضَّ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَا

فَكُلُّ شَيْءٍ تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ حَسَنٍ ** كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبْقَى لَهُ أَثَرا

وَاصْحَبْ وَصَلّ وَوَاصِلْ كُلِّ أونَةٍ ** عَلَى النَّبِيِّ سَلامًا طَيِّبًا عَطَرَا

وَصَحْبِهِ وَمَنْ اسْتَهْدَى بِهَدْيِهِمُوا ** فَهُمْ أَئِمَّةُ مَنْ صَلَّى وَمَنْ ذَكَرَا

اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد. وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة:
عباد الله إن الناس في هذه الحياة انقسموا قسمين قسم جعلوا غايتهم الكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا من مساكن وملابس وقضاء وطر وليس وراء هذه الغاية عندهم غاية أخرى فهم يقضون أوقاتهم يصرمون أعمارهم ليتمتعوا ما وسعهم التمتع فما بعد نظرهم الكليل الحسير وقلوبهم الميتة إلا العدم والفناء.
وهؤلاء هم جند الشيطان شر خلق الله وأشقاهم قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} فهم صاروا كالأنعام لا يختلفون عنها إلا في الصورة والشكل وإلا في دخولهم النار ولذلك قال الله جل وعلا: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
تلك هي غاية هذا الصنف أما مركزهم بين الناس فهو مركز الإفساد والإضلال ومآلهم جميعًا دخول النار، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وقال: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}.
الصنف الثاني الذين عرفوا الحقيقة والغاية التي خلقوا لها عرفوا أن الله خلقهم لعبادته كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أيقنوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} فغايتهم كما تقدم عبادة الله.
ومنها الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه وعمارة الأرض بفعل الخير وهداية الحيارى إلى الحق وقيادتهم في دروب الحياة الدنيا ووراءها الغاية العظمى والعليا وهي ابتغاء مرضاة الله وحده جل جلاله.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هذه مهمة المسلم وغايته فيها عبادة الله وحده وجهاده في سبيله يجاهد نفسه حتى يحملها على طاعة الله ويبعدها عن المعصية جهده ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور الإسلام.
وقد اختار الله المسلمين لهذه المهمة دلالة الناس وقيادتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور فلا مجال عن هذه المهمة الشريفة هذه طريقة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام قال الله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وقال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية». فكل واحد من المسلمين عليه على قدر حاله ولا يعذر وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
فالذي يقول إنه مسلم عليه أن يبلغ ويدعو ويؤدي هذه الشهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء ويؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.
وهو لا يؤيد هذه الشهادة تمامًا حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعًا يشهد لهذا الدين الإسلامي بالأحقية في الوجود بالخيرية وبالأفضلية على سائر ما في الأرض.
فالشهادة في النفس أولاً بمجاهدتها حتى تكون ترجمة له ترجمه حية في شعورها وسلوكها حتى صورة الأيمان في هذه النفس فيقولوا ما أطيب هذا الأيمان وما أحسنه وما أزكاه.
وهو يصوغ أصحابه على هذا الشكل من الخلق والكمال فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون والشهادة له بدعوة الناس إليه وبيان فضله ومحاسنه ومزيته بعد تمثل هذا الفضل.
وهذه المزية في نفس الداعية فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للأيمان في ذات نفسه إذا هو لم يدع إليها الناس وما يكون قد أدى الدعوة والتبليغ والبيان قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال: {لْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية.
ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجًا للجماعة المؤمنة ومنهجًا للبشرية جميعَا والمحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة.
فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الأيمان الذاتي ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة. اهـ.
لَقَدْ عَفَتْ مِنْ دِيَارِ الْعِلْمِ آثَارُ ** فَأَصْبَحَ الْعِلْمُ لا أَهْلٌ وَلا دَارُ

يَا زَائِرِينَ دِيَارَ الْعِلْمِ لا تَفِدُوا ** فَمَا بِذَاكَ الْحِمَى وَالدَّارِ دَيَّارُ

تَرَحَّلَ الْقَوْمُ عَنْهَا وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ ** مُشَمِّرٌ مِنْ حُدَاةِ الْبَيْنِ سَيَّارُ

قَدْ أَوْرَدَ الْقَوْمَ حَادِيهم حِيَاضَ رَدَى ** فَمَا لَهُمْ بَعْدَ ذَاكَ الْوِرْدِ إصْدَارُ

لَهْفِي عَلَى سُرُجِ الدُّنْيَا الَّتِي طَفِئَتْ ** وَلا يَزَالُ لَهَا فِي النَّاسِ أَنْوَارُ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا ** وَهَكَذَا طَالِبُ الْعَلْيَاءِ صَبَّارُ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا ** بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابَوْا وَلا جَارُوا

مَالُوا يَمِينًا عَنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ** لأَنَّهَا فِي عُيُونِ الْقَوْمِ أَقْذَارُ

وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادٍ قُلُوبُهُمْ ** طَيْرٌ لَهَا فِي ظِلالِ الْعَرْشِ أَوْكَارُ

هُم الَّذِينِ رَعَوا لِلْعِلْمِ حُرْمَتَهُ ** لِلْعِلْمِ بَيْنَهُمْ شَأْنٌ وَمِقْدَارُ

صَانُوهُ طَاقَتَهُمْ عَنْ مَا يُدَنِّسُهُ ** كَمَا يَصُونُ نَفِيسَ الْمَالِ تُجَّارُ

وَأَحْسَنُوا فِيهِ تَصْرِيفًا لأَنَّهُم ** لَهُمْ مِن اللهِ تَوْفِيقٌ وَإِقْدَارُ

رَأَوْهُ كَالنَّجْمِ بُعْدًا لَيْسَ يُدْرِكُهُ ** بَاعٌ قَصِيرٌ وَفَهْم فِيهِ إِقْصَارُ

فَدَوَّنُوهَا فُرُوعًا مِنْهُ دَانِيَةً ** لَكُلٍّ جَانٍ تَدَلَّتْ مِنْهُ أَثْمَارُ

يَا صَاحِ فَالْزَمْ طَرِيقَ الْقَوْمِ مُتَّبِعًا ** فَرِيقَهُمْ لَيْسَ بَعْدَ الْيَوْمِ إِنْظَارُ

وَوَاجِبٌ قَصْرُكَ الْمَمْدُودَ مِنْ أَمَلٍ ** مَسَافَةُ فِي دُنْيَاكَ أَشْبَارُ

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بطاعتك وجبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نفوسنا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عدوك واجعل هوانا تبعًا لما جاء به رسولك صلى الله عليه وسلم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.